فصل: فصل في معاني الأمانة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في معاني الأمانة:

ومن معاني الأمانة حفظ الأسرار التي لا يرضى أهلها أن تذاع فكم من أضرار على الأبدان والأموال والأعراض حصلت بإفشاء الأسرار إلا إذا كَانَت الأسرار فيها على المسلمين فليس لها حرمة ولا يجوز كتمها وعَلَى كل مسلم شهد مجلسًا يمكر فيه المجرمون بغيرهم ليلحقوا به الأذى أن يسارع إِلَى الحيلولة دون الفساد جهد طاقته فإن ذلك خطر عظيم وفساد كبير، وَقَدْ قال صلى الله عليه وسلم: «المجلس بالأمانة إلا مجلس سفك دم حرام أو فرج حرام أو اقتطاع مال بغير حق، ومما يتعين كتمه وستره مَا يجري بين الرجل وامرأته مما يفضي به أحدهما إِلَى الآخر فإن التحدث به خيانة لهذه الأمانة».
إِذَا الْمَرْءُ أَفْشَى سِرَّهُ بِلِسَانِهِ ** وَلامَ عَلَيْهِ غَيْرَه فَهُوَ أَحْمَقُ

إِذَا ضَاقَ صَدْرُ الْمَرْءِ عَنْ سِرِّ نَفْسِهِ ** فَصَدْرُ الَّذِي يُسْتَوْدَعُ السِّرِّ أَضْيَقُ

فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن من أشر الناس منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إِلَى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها». والثرثارون من أحلى وألذ مَا يتسامرون به فِي مجالسهم منكر من أقبح المنكرات، ألا وهو مَا يقع بينهم وبين أزواجهم فِي الخلوات الخاصة من كلام وأفعال، وما يكون من الرجال قليل من مَا يكون من النساء فإن الكلام فِي هذا الموضوع عادتهن الوحيدة وهذه معصية من أفحش المعاصي ووقاحة محرمة.
وعن أسماء بنت يزيد أنها كَانَت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجال والنساء قعود عنده، فقال: «لعل رجلاً يقول مَا فعل بأهله ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها». فأزم القوم- أي سكتوا وجلين- فقلت: أي والله يا رسول الله إنهم ليفعلون وإنهن ليفعلن قال: «فلا تفعلوا فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة فغشيها والناس ينظرون». رواه أحمد.
إِنَّ الْكَرِيمَ الَّذِي تَبْقَى مَوَدتُه ** وَيَحْفَظُ السِّرَ إِنْ صَافَا وَإِنْ صَرَمَا

لَيْسَ الْكَرِيمُ الَّذِي إِنْ زَلَّ صَاحِبُه ** بَثَّ الذي كَانَ مِن أَسْرَارِهِ عَلْمَا

روى عن بعض الورعين أنه أراد طلاق امرأته فقيل له: مَا الذي يريبك مِنْهَا. فقال: العاقل لا يهتك سترَا. فلما طلقها قيل له: الآن طلقتها. فقال: مَا لي ولا مرأة غيري المعنى عليَّ وعليها ستر الله. وهكذا الرجال الذي يعرفون قدر الأمانة والغالب أن إخبار الناس بالأسرار يترتب عليه أضرار فلذلك قيل حول هذا الكلام:
احْفَظْ لِسَانَكَ لا تَبُحْ بثلاثةٍ ** سِنٍّ ومالٍ إِنْ سُئِلْتَ ومَذْهَب

فَعَلَي الثلاثَةِ تُبْتَلَى بِثَلاثةٍ ** بِمَُكَفِّرٍ وبِحَاسِدٍ ومُكَذِّب

ومن الأمانة الوضوء فإن أداه كاملاً بدون مجاوزة للحد فقد حفظ هذه الأمانة وإن أداها وإن فرط فيها وأهمل بعض الأعضاء أو بعض الجسم فِي الغسل أو تعدى إِلَى الوسواس وفاتت لمولاه فقد خان أمانته.
وكذلك الكيل والوزن أمانة إن أداه على الوجه المطلوب بلا بخس ولا غش فقد حفظها وأداها، وإن بخس أو غش أو دلس فقد خان أمانته.
وكذلك أولادك أمانة عندك إن أحسنت فيهم وربيتهم تربية صالحة ووجهتهم توجيهًا حسنًا فقد أديت أمانتك وإن أهملهم ولَمْ يبال بهم فقد خان أمانته.
وكذلك الودائع التي تدفع إِلَى الإنسان ليحفظها حينًا ثم يردها إِلَى أصحابها حين يطلبونها أو إِلَى الحاكم إن فقدوا ومن يخلفهم وتعذر عليه إيصالها إليهم وأيس من مجيء صاحبها، فهذه من الأمانات التي يسأل عنها، وَقَدْ استخلف صلى الله عليه وسلم عند هجرته ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليسلم المشركين الودائع التي استحفظها مع أن هؤلاء المشركين كانوا بعض الأمة التي استفزته من الأرض واضطرته إِلَى ترك وطنه فِي سبيل عقيدته، قال ميمون بن مهران: ثلاثة مؤدبين إِلَى البر والفاجر الأمانة والعهد وصلة الرحم.
وكذلك التلميذ أمانة يجب على الأستاذ أن يوجهه إِلَى العلوم النافعة والعقائد السليمة ويحذره من البدع وما يضره فِي دينه ويحذره من أهل البدع ويبين مَا يعرفه من الكتب المظل دراستها والعلماء المنحرفين عن الصراط المستقيم ليجتنبهم وكتبهم، ويذكر له العلماء المحققين المستقيمين وكتبهم ليقتنيها فيتأثر بها بإذن الله وتحل العقيدة السليمة فِي قلبه ويسعد فِي حياته وبعد مماته بإذن الله تعالى.
ويحذره من كتب الأشاعرة والشيعة والمعتزلة ومن علمائهم ومن أضر مَا على المسلمين اليوم الأشاعرة وكتبهم والرافضة وكتبهم عصمنا الله وجميع المسلمين مِنْهُمْ ومن كتبهم وبدعهم التي عمت وطمت وصرفت كثيرًا من الناس عن طريقة السلف الخالصة من شوائب البدع.
ويكون هذا المعلم المخلص هو السبب الوحيد لاستقامة هذا التلميذ وهدايته فيا لها من تجارة ويا له من ربح، ويا لها من نصيحة فنجد التلميذ إن كَانَ وافيًا شكورًا يدعوا لمواجهة دائمًا وإن لَمْ يكن كذلك فأجر المعلم والموجه المخلص لا يضيع عند الله، قال تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} والناس يختلفون فيهم روض وسبح.
قال بعضهم:
لَعَمْرُكَ مَا المَعْرُوفُ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ ** وفي أَهْلِهِ إِلاَّ كَبَعْضِ الوَدَائِعِ

فََمُسْتَودٌع ضَاعَ الذِي كَانَ عِنْدَهُ ** وَمُسْتَوْدَعٌ مَا عِنْدَهُ غَيْرُ ضَائِعِ

وَمَا النَّاسُ فِي كُفْرِ الأَيَادِي وَشُكْرِهَا ** إلى أَهْلِهَا إِلاَّ كَبَعْض المَزارِعِ

فَمَزْرَعَةُ أَجْدَتْ فَأَضْعَفْ زَرْعُهَا ** وَمَزْرَعَةٌ أَكْدَتْ على كُلِّ زَارِع

وكذلك العمل أمانة فِي عنق العالم يسأل عنه يوم القيامة إذا لَمْ سنشره بين الناس وينور به قلوبهم يكون خائنًا لأمانته وغاشًّا لإخوانه قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}.
قال بعض المفسرين على هذه الآية: والتنديد بكتمان مَا أنزل الله من الكتاب المقصود به أولاً أهل الكتاب ولكن مدلول النص العام ينطبق على أهل كل ملة يكتمون الحق الذي يعلمونه ويشترون به ثمنًا قليلاً إما هو النفع الخاص الذي يحرصون عليه بكتمانهم للحق والمصالح الخاصة التي يتحرونها بهذا الكتمان ويخشون عليها من البيان وإما هو الدنيا كلها وهي ثمن قليل حين تقاس على مَا يخسرونه من رضى الله ومن ثواب الآخرة. انتهى.
وقال آخر: وهذه الآية توجب إظهار علوم الدين منصوصة كَانَت أو مستنبطة وتدل على امتناع جواز أخذ الأجرة على ذلك إذ غير جائز استحقاق الأجر على مَا يجب فعله بلغ يا أخي الذين يأكلون بالكتب الدينية ويحتكرونها باسم تحقيق أو نشر نسأل الله العافية.
وَقَدْ روى الأعرج عن أبي هريرة أنه قال: إنكم تقولون أكثر أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم والله الموعد، وأيم لولا آية فِي كتاب الله مَا حدثت بشيء أبدًا، ثم تلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآية.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار». رواه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن حبان فِي صحيحه والبيهقي ورواه الحاكم بنحوه وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كتم علمًا مما ينفع الله به الناس فِي أمر الدين ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار». رواه ابن ماجة ومن الأمانة فِي العلم إنك إذا أبديت رأيًا ثم أراك الدليل القاطع أو الراجح أن الحق فِي غير مَا أبديت أن تصدع بما استبان لك أنه الحق.
ولا يمنعك من الجهر به أن تنسب إِلَى سوء النظر فيما رأيته أولاً، والأمانة حملت كثيرًا من العلماء على أن يظهروا رجوعهم عن كثير من آراء علمية أو اجتهادية دينية تبين لهم أنهم غير مصيبين فيها.
ولا يكترثون بما قال فيهم من الاعتراضات التي فِي غير محلها لعلمهم أن الناس مَا مِنْهُمْ سلامة أبدَا مهما استقاموا ولهذا الرسل لَمْ يسلموا مِنْهُمْ قولاً وفعلاً، بل الله جل وعلا الذي أوجدهم ورباهم ورزقهم وفضلهم على كثير ممن خلق جعلوا له ولدا وقالوا: لا يعيدنا، فلا مطمع فِي السلامة مِنْهُمْ، وهم كما قال الشاعر معربًا عن صفاتهم:
وَإِنْ تُبْدِي يَوْمًا بالنَّصِيحَةِ لامْرئٍ ** بِتُهْمَتِهِ إِيَّاكَ كَانَ مُجَازِيَا

وَإِنْ تَتَحَلَّى بِالسَّمَاحَةِ وَالسَّخَاء ** يُقَالُ سَفِيهٌ أَخْرَقٌ لَيْسَ وَاِعِيَا

وَإِنْ أَمْسَكْت كفَّاكَ حَالَ ضَرُورَةٍ ** يُقَالُ شَحِيحٌ مُمْسِكٌ لا مُسَاوِيَا

وَإِنْ ظَهَرَتْ مِنْ فِيكَ يَنْبُوعُ حِكْمَةٍ ** يَقُولُونَ مِهْذَارًا بَذِيًّا مُبَاهِيَا

وَعَنْ كُلِّ مَا لاَ يَعْنِ أَنْ كُنْتَ تَارِكًا ** يَقُولُونَ عَنْ عِيٍ مِن العَجْزِ صاَغِيَا

وَإِنْ كُنْتَ مِقْدَامًا لِكُلِّ مُلِمَّةٍ ** يُقَالُ عَجُولٌ طَائِشُ العًقْلَ وَاهِيَا

وَإِنْ تَتَغَاضَى عَنْ جَهَالَةِ نَاقِصٍ ** يَعُدُّوكَ خَوَارًا جَبَانًا وَلاهِيا

وَإِنْ تَتَقَاصَى بِاعْتِزالِكَ عَنْهُمُو ** يَخَالُوكَ مِنْ كِبْرٍ وَتِيهٍ مُجَافِيَا

وَإِنْ تَتَدَانَى مِنْهُمْ الِتَأَلُّفٍ ** يَظُنُّوكَ خَدَّاعًا كَذُوبًا مُرَائِيَا

تَرى الظُّلْمَ مِنْهُمْ كَامِنًا فِي نُفُوسِهم ** كذَا غَدْرُهُم فِي طَبْعِهِمْ مُتَوَارْيَا

فَفِي قُوَّةِ الإِنْسَانِ يَظْهَرُ ظُلْمُهُ ** وَفِي عَجْزِهِ يَبْقَى كَمَا كَانَ خَافِيَا

وَهَيْهَاتَ تَنْجُو مِنْ غَوَائِلِ فِعْلِهم ** وَأَقْوَالِهِمْ مَهْمَا تَكُنْ مُتَحَاشِيَا

فَمَنْ رَامَ إِرْضَاءَ الأَنامِ بِقَوْلِهِ ** وَفِعْلٍ غَدَا لِلْمُسْتَحِيلِ مُعَانِيَا

وَمَنْ ذَا الذِي أَرْضَى الخَلاَئِقِ كُلَّهُم ** رَسُولاً نَبِيَّا أَمْ وَلِيًّا وَقَاضِيَا

وَأَعْظَمُ مِنْ ذَا خَالِقُ الخَلْقُ هَلْ تَرَى ** جَمِيعَ الوَرَى فِي قِسْمَةٍ مِنْه رَاضِيَا

إِذَا كَانَ رَبُّ الخَلْقِ لمْ يُرْضِ خَلْقَهُ ** فَكيْفَ بِمَخْلُوقٍ رِضَاهُمْ مُرَاجِيا

فَلازِمْ رِضَى رَبِّ العِبَادِ إِذاً وَلاَ ** تُبَالِ بِمَخْلُوقِ إذَا كُنْتَ زَاكِيَا

وَسَدِّدْ وَقَارِبْ مَا اسْتَطَعْتَ فَإِنَّمَا ** يُكَلَّفُ عَبْدٌ فِعْلَ مَا كَانَ قَاوِيَا

اللهم إنا نعوذ بك من شر أنفسنا وشر الدنيا ونعوذ بك من الشيطان الرجيم ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

.فصل فيما ينبغي من الأمانة في العلم:

ومن الأمانة فِي العلم أنك إذا سئلت عن مسألة خافيًا عليك حكمها أن تقول: لا أدري غير مستنكف ولا مبال بما يكون لها من أثر عند السائلين والمستمعين ولأن يقال سئل فقال: لا أدري خير من أن يقال سئل فأجاب خطأ أو روى مَا لَمْ يكن واقعًا.
وسأل رجل بن عمر عن مسألة فقال: لا علم لي بها. ثم قال السائل بعد أن ولى: نِعْمَ مَا قال بن عمر قال: لما لا يعلم لا أعلم.
وقال سفيان بن عيينة: كنت فِي حلقة رجل من ولد عبد الله بن عمر فسئل عن شيء فقال: لا أدري. فقال له يحي بن سعد: العجب منك كل العجب تقول: لا أدري وأنت ابن إمام هُدَى؟ فقال: أولا أخبرك منى عند الله وعند من عقل عن الله من قال بغير علم أو حدث عن غير ثقة.
وقال الهيثم بن جميل: شهدت مالك بن أنس عن ثمان وأربعين مسألة، فقال فِي اثنين وثلاثين مِنْه: لا أردي.
وعن أبي سليمان بن بلال: قال شهدت بن محمد بن أبي بكر الصديق والناس يسألونه، فقال: يا هؤلاء بعض مسائلكم فإنا لا نعلم كل شيء.
وكان عبد الله بن يزيد بن هرمز يقول: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده لا أدري حتى يكون أصلاً مِنْه فِي أيديهم إذا سئل أحدهم عما لا يعلم قال: لا أدري.
عَلَيْكَ بِلاَ أَدْريْ إِذََا كُنْتَ جَاهِلاً ** لِتَسْلَمَ مِن شَرِّ الخَطَا فِي الإِجَابَةِ

آخر:
وَمَنْ كَانَ يَهْوَى أَنْ يُرَى مُتَصَدِّرًا ** وَيَكْرَهُ لا أَدْرِي أَصِيْبَتْ مَقَالِتُهْ

آخر:
يَمُدُوْنَ فِي الإِفْتَاءِ بَاعًا قَصِيرَةً ** وَأَكْثَرُهُمْ عِنْدَ الْجَوَابِ يُكَذْلِكُ

آخر:
حِذَارَكَ أَنْ تَقُولَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ** كَفَى بِالشَّكِ عِنْدَ النَّاسِ جَهْلاً

آخر:
وَبِالصِّدْقِ فَاسْتَقْبِلْ حَدِيْثَكَ إِنَّهُ ** أَصَحُّ وَأَدْنَى لِلسَّدَادِ وَأَمْثَلُ

آخر:
تَعَلَّمْ فَلَيْسَ الْمَرْءُ يُوْلَدُ عَالِمًا ** وَلَيْسَ أَخُوْ عِلْمٍ هُوَ جَاهِلُ

وَإِنْ كَبِيرَ الْقَوْمِ لا عِلْمَ عِنْدَهُ ** صَغِيرٌ إِذَا التَّقَتْ عَلَيْهِ الْمَحَافِلُ

ومن الأمانة فِي العلم أن لا يفتي بما يراه باطلاً. إلا إن سأله عن مَا يراه فلان بأن قال: مَا رأي الشافعي أو أحمد فيها، أو مَا هو اختيار شيخ الإسلام فيها، إن كنت عالمًا بالحكم تقول له: يرى كذا وكذا ولا بأس.
وبالتالي فما من إنسان منا إلا وعلمه أمانة لله فِي عنقه، فالشعب أمانة فِي يد الولاة للأمور، والدين أمانة فِي يد العلماء وطلبة العلم والعدل أمانة فِي يد القضاة والحق أمانة فِي يد المجاهدين، والصدق أمانة فِي يد الشهود، والمرضى أمانة فِي يد الأطباء، والمصالح أمانة فِي يد المستخدمين، والتلميذ أمانة فِي يد الأستاذ، والولد أمانة فِي يد أبيه، والوطن أمانة فِي يد الجميع، وهكذا باقي الأمانات.
وَقَدْ ورددت آيات وأحاديث فِي عظم شأن الأمانة والأمر بحفظها وأدائها والتحذير من الخيانة فيها، قال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وقال: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: القتل فِي سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة. قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة وإن قتل فِي سبيل الله فيقال: أد أمانتك فيقول: أي رب كيف وَقَدْ ذهبت الدنيا، فيقال: انطلقوا به إِلَى الهاوية، وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه فيراها فيعرفها فيهوي فِي أثرها حتى يدركها فيحملها على منكبه حتى إذا ظن أنه خارج زلت عن منكبيه فهو يهوي فِي أثرها أبد الآبدين.
ثم قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والكيل أمانة وأشياء عددها وأشد ذلك الودائع، قال: راوي الحديث فأتيت البراء بن عازب فقلت: ألا ترى إِلَى مَا قال ابن مسعود قال: كذا وكذا قال: البراء صدق أما سمعت الله يقول: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}.
وفي حديث حذيفة فِي وصفه لتسرب الأمانة من القلوب التي تخلخل فيها اليقين، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر حدثنا: «أن الأمانة نزلت فِي جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة».
وحدثنا عن رفعها قال: «ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرًا، وليس فيه شيء فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحدهم يؤدي الأمانة فيقال: إن فِي بني فلان رجلاً أمينًا ويقال للرجل: مَا أعقله وما أظرفه وما أجلده وما فِي قلبه مثقال حبة خردل من إيمان». الحديث رواه البخاري.
وللأمير الصنعاني فِي الحث على تدبر كتاب الله والتفكر فِي آياته والثناء على الله قصيدة بليغة.
الْوَارِدَاتُ عَلَيْنَا كُلَّهَا مِنَنٌ ** مِنْ رَبِّنَا فَلَهُ الإِحْسَانُ وَالْحَسَنُ

إِنَا لَنَا كُلَّ شَيْءٍ مِنْ مَوَاهِبِهِ ** مَا لا تُحِيْطُ بِهِ عَيْنٌ وَلا أُذُنُ

فَشُكْرُ بَعْضِ أَيَادِيهِ الَّتِي شَمَلَتْ ** عَنْ شُكْرِهَا يَعْجَزُ الْعَلامَةُ اللَّسِنُ

يَا عَالِمَ الْغَيْبِ لا يَخْفَاهُ خَافِيَةٌ ** وَعِلْمُهُ يَتَسَاوَى السِّرُّ وَالْعَلَنُ

أَهْلُ الْبَسِيْطَةِ طُرًّا تَحْتَ قَبْضَتِهِ ** وَكُلُّهُمْ بِالذِّي يِأْتِيهِ مُرْتَهَنُ

بِحِكْمَةٍ وَبِعِلْمٍ كَانَ مُبْتَدِئًا ** هَذَا الْوُجُودَ الذِّي حَارَتْ لَهُ الْفِطَنُ

دَحَى الْبَسِيطَةَ فَرْشًا لِلأنَامِ وَقَدْ ** عَلَتْ عَلَيْهَا الْجِبَالُ الشُّمُّ وَالْقُنَنُ

كَيْلا تَمِيْدَ بِأَهْلِهَا وَأَوْدَعَهَا ** لَهُمْ مَنَافِعَ إِنْ سَارُوا وَإِنْ قَطَنُوا

بَنَى السَّمَاءَ بَأَيْدٍ فَوْقَهَا وَحَوَتْ ** عَجَائِبًا أَعْرَضُوا عَنْهَا وَمَا فَطَنُوا

فَفِي التَّأَمُّلِ فِي آيَاتِهَا عِبَرٌ ** لَوْ كَانَ يُطْلَقُ عَنْ أَفْكَارِنَا الرَّسَنُ

وَقَدْ حَكَى اللهُ إِعْرَاضَ الْعِبَادِ فَهَلْ ** غَطَّى على الْعَيْنِ مِنْ أَفْكَارِنَا الْوَسَنُ

إِنَّ التَّفَكُّرَ فِي آيَاتِ خَالِقِنَا ** عِبَادَةُ الْفِكْرِ فِيْهَا الْخَلْقُ قَدْ غُبِنُوا

تَزْدَادُ بِالْفِكْرِ إِيْمَانًا وَمَعْرِفَةً ** فَلا يَفُوتُكَ شَيْءٌ مَا لَهُ ثَمَنُ

مَنَّ الإِلَهُ عَلَيْنَا بِالْكِتَابِ فَقُلْ ** يَا مِنَّةً قَصُرَتْ مِنْ دُونِهَا الْمِنَنُ

فَصَرِّفِ الْفِكْرَ فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ تَجِدْ ** فِيْهِ الْعُلُومَ الَّتِي لَمْ يَحْوِهَا الْفَطِنُ

آيَاتُهُ أَعْجَزَتْ كُلاٌّ بَلاغَتُهَا ** وَأَبْلَغُ الْخَلْقِ قَدْ أَوْدَى بِهِ اللَّكَنُ

أَدِلَّةٌ وَأَقَاصِيصٌ وَأَمْثِلَةٌ ** لَفْظٌ بَلِيغٌ وَمَعْنَى فَائِقٌ حَسَنُ

غُصْ بَحْرَهُ تَلْقَ فِيْهِ الدُّرَّ مُبْتَذَلاً ** وَفُلْكُ فِكْرِكَ فِي أَمْوَاجِهِ السُّفُنُ

كَمْ قِصَّةٍ وَصَفَتْ أَخْبَارَ مَنْ دَرَجُوا ** مِنْ صَالِحٍ وَشَقِيٍّ رَبُّهُ الْوَثَنُ

قِفْ بِالْمَثَانِي تَرَى آيَاتِهَا عَجَبًا ** أَوْ بِالْمَئِينِ فَفِيهَا كُلِّهَا الْمِنَنُ

أَوْ الطَّوَالِ فَفِيْهَا الْعِلْمُ أَجْمَعُهُ ** خَزَاِئٌن هِيَ لِلأَحْكَامِ تَخْتَزِنُ

وَفِي الْمُفَصَّلِ آيَاتٌ مُفَصَّلَةٌ ** قَوَارِعٌ لِقُلُوبٍ مَا بِهَا دَرَنُ

إِنَّ الذُّنُوبَ لأَوْسَاخُ الْقُلُوبِ فَلاَ ** يَكُنْ فُؤَادُكَ بَيْتًا حَشْوُهُ الدِّمَنُ

وَدَاوِ قَلْبَكَ مِنْ قَبْلِ الْمَمَاتِ فَمَا ** يُجْدِي الدَّوَاءُ بِمَيْتٍ بَعْدَ مَا دَفَنُوا

بِمَرْهَمِ التَّوْبَةِ الصِّدْقِ النَّصُوْحِ فَذَا ** هُوَ الدَّوَاءُ لِذَاكَ الدَّاءِ لَوْ فَطِنُوا

وَنَارُ ذَنْبِكَ تُطْفِيهَا الدُّمُوعِ إِذَا ** أَثَارَهَا الْخَوْفُ مِنْ مَوْلاكَ وَالْحَزَنُ

بَادِرْ بِهَذَا الدَّوَا مِنْ قَبْلِ مِيْتَتِهِ ** فَمَا لِسَهْمٍ الْقَضَا مِنْ دُوْنِهِ جُنَنُ

وَرُبَّ شَخْصٍ تَوَفَى قَبْلَهُ وَثَوَى ** فِي صَدْرِهِ فَهُوَ قَبْرٌ وَالْحَشَا كَفَنُ

تَرَاهُ فِي النَّاسِ يَمْشِي حَامِلاً جَدَثًا ** فَهَلْ بِأَعْجَبَ مِنْ هَذَا أَتَى الزَّمَنُ

فَأَسْأَلُ اللهَ تَوْفِيْقًا يَكُونُ بِهِ ** حُسْنُ الْخِتَامِ فَفِيْهِ الْفَوْزُ مُرْتَهَنُ

فَفِي الصَّلاةِ على خَيْرِ الْوَرَى وَعَلَى ال ** آلِ الْكِرَامِ مَعَ التَّسْلِيْمِ يَقْتَرِنُ

اللهم ثبت محبتك فِي قلوبنا وقوها ونور قلوبنا بنور الإيمان واجعلنا هداة مهتدين وآتنا فِي الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.